الأربعاء، 29 أكتوبر 2014

أُمّة كان وأخواتها

هنا باريس.. بلد أضواء المساء والصباحات الصاخبة التي تنتشي بحب المظاهر وهوس الموضة، وذاك الشعب الذي يختزل الرُقي والجمال في نفسه، وينظر للآخرين أنهم أقل منه كحالنا بالضبط، مع اختلاف لون العينين والبشرة وشبه انسجام تام بالتفكير والنظرة، فالسطحية بتقييم الآخرين مرض ابتلينا به وتشابهنا مع الفرنسيين بالطبقية.. نسأل الله الشفاء.

متن:
بدعوة من اتحاد الطلبة حللت ضيفًا على الملتقى الثقافي بباريس بعد أيام من مشاركتي بمؤتمر "مهنتي إنسانية" بإيرلندا، ولقاء طلبة الطب هناك مرورًا بلندن وزيارة الأصدقاء، وما لفتني هو شغف الناس بالقراءة، في بريطانيا وإيرلندا يستغلون دقائق الانتظار بالمطالعة، ففي الحافلة أو القطار أو المطار تجد الغالبية يخرج كتابه ليقرأ، ولا تسمع صوتًا إلا بالهمس حتى لا يزعجوا بعضهم، وهذه ثقافة اختفت في "أمة اقرأ".
في أحد قطارات لندن جلس بجانبي شاب بريطاني وبهدوء أخرج كتابه، دفعني الفضول لأسأله ماذا تقرأ؟
ليُجيبني بأنه يقرأ كتابا عبارة عن مختارات في فلسفة العقيدة الإسلامية واليهودية، وعند استفساري عن سبب اختياره، قال إنه يحب أن يفهم كيف يفكر الآخرون ليستطيع التعامل معهم، وأنه موظف بنك ولا يجد وقت فراغ كافيا للقراءة، وهو بالضبط ليس كحالنا لأننا في أي مكان عام نبحث عن "وايرلس" لاستغلال وقت فراغنا بين تويتر وإنستغرام وأحاديث "فلان وعلان" بالواتساب، ناهيك عن أننا محترفون في صنع وقت الفراغ حتى في أوقات العمل، وهذا إنجاز عظيم يُحسب لنا، وفشل اليابانيون في بلوغه.

-مُضحك.. ومُبكٍ
في إيرلندا زرت جامعة "ترينتي" التي تأسست عام 1592، وتعتبر واحدة من أقدم جامعات العالم، وأثناء التجول فيها لاحظت طابورا طويلا لدخول أحد المباني، ظننته "مطعما" أو "كافيه" لأن هذا ما اعتدته بثقافتي العربية الأصيلة، فنحن لا نزدحم إلا على ممرات المطاعم والكافيهات ودور السينما، ولكن كان ذاك الطابور الطويل من أجل دخول المكتبة، مع العلم أن دخولها برسوم "زهيدة"، ومع ذلك ازدحام شديد من الطلبة وزوّار الجامعة لدخول واحدة من أقدم مكتبات العالم، وعند دخولي لها وجدت تحفة ثقافية ومعمارية أكبر بكثير من أن تُسمى مكتبة، ضخامة المبنى وعراقة الترتيب، والعدد الهائل من المراجع الثقافية، حتى إني وجدت قسما كاملا لكتب ابن خلدون وابن سينا وغيرهما من المفكرين العرب مترجمة للإنجليزية.
لديهم جامعة رغم قدمها إلا أنها عريقة بالمباني والتجهيزات الحضارية، ومنظمة هندسيًا ومعماريًا، فلا ازدحامات بمواقف السيارات ولا معاناة مع "التكييف" بالفصول الدراسية، ولا مظاهرات طلابية تشتكي من الشعب المغلقة كما هو الحال بجامعة "موزنبيق" التي تعرفونها جيدًا.
هناك أُمّة تعيش على أمجاد الماضي، ودخول مكتباتها بالمجان، ومع ذلك لا يزورها إلا الفئران وغبار الوحدة، ولا عجب فمنظر شاب يُخرج كتابه بمكان عام محط للسخرية وعبارات الظرافة، أشهرها "خف علينا يالعقاد"، فتلك الشعوب تحترف استخفاف الدم الذي صاحبه خفة بالعقل، ومشغولة بتصنيف بعضها ومرض الفئوية الذي طمس فضائلهم البشرية، وتحترف الشتم والإساءة، أما الحجة والدليل ومقارعة الأفكار بالبيّنة والحوار فهذه نصوص يقولونها بمثالية، لكن عند أول نقطة اختلاف سترى العجب العجاب، بداية من طعن بالشرف والذمة، وصولًا إلى أنك لست أصيلا و"مو من عيال بطنها"، وأقل الإيمان أنك "لفو"، فالطبقية وغياب العقل أضاع المنطق ورؤية الازدهار، فالتنمية الأساسية ليست بتطور البنيان بل بازدهار ورُقي الإنسان، وهذا سبب تقدم سائر الأمم، في حين أن أمة "كان وأخواتها" تعيش على أنقاض الماضي.
يقول أحد المفكرين "بالقراءة ترى مالا يراه الآخرون"، فالقراءة تفتح لك آفاقا فكرية كثيرة وتجعلك ترى الأمور من زوايا عديدة، وتكوّن لديك فصاحة بالبيان تفتقدها مجتمعاتنا التي تهتم بالموضة وتقليعات الشعر، ومشاهدة "أراب أيدول"، وأعظم ثقافة نقدمها للغرب هي ثقافة الشاب الخليجي العظيم عندما يدخل مطعما ليطلب كل ما في "المنيو"، ويختمها بـ "بيبسي دايت" حفاظًا على ريجيمه الذي احتار معه كل أطباء التغذية، فكم نحن عظماء وليتهم يعلمون.

فاصلة
طلبة الطب في إيرلندا أسسوا تجمعا طلابيا ويُقيمون مؤتمرات ثقافية ورحلات إنسانية، كان آخرها رحلة "عون وسند" لمساعدة فقراء ومسلمي جيبوتي، وكل هذا على حسابهم الخاص ودون دعم، لفتة إنسانية من شباب بمقتبل العمر، لمست فيهم الطموح والتفاؤل للمستقبل، اجتمع السني والشيعي والحضري والبدوي، فكانوا مثالا لذاك الشعار الذي نكتبه فقط دون تطبيقه "وحدة وطنية".. فمن يحميهم من نيران الفئوية والمذهبية عندما يعودون بشهاداتهم العليا لمجتمع يهوى ويعشق التصنيف؟
إضاءة:
قرارك بأن تتغير يسقط عندما تهتم بماذا سيقولون عنك.. كن أنت وكفى.
آخر السطر:
"الناس تقرا كتب يافهيد وأنت خلك على قال فلان وسوّى علان.. أبكيك".

هناك تعليق واحد:

  1. أننا في أي مكان عام نبحث عن "وايرلس" لاستغلال وقت فراغنا بين تويتر وإنستغرام وأحاديث "فلان وعلان" بالواتساب، ناهيك عن أننا محترفون في صنع وقت الفراغ حتى في أوقات العمل.
    لم أكن يوماً على علاقه وطيده مع هاتفي لكن أشكر الله على هذه البرامج كل صباح:)

    ردحذف