السبت، 30 يوليو 2016

أمي "نوضى"





البداية:
"ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى"

متن:
قدرها أن تعيش وحيدة
لا والدٍ .. ولا ولد
تفترش بساط الصبر
ونظرها للسماء
بمنزلها .. بمفردها .. حيث لا أحد

هي زوجة جدي وأرملته
والوحيدة بين نسائه الأربع التي لم تنجب 
والتي بقت على ذمته حتى وافته المنية
وبينما كلٌ رعاه أبناءه، 
اختارت هي العودة من حيث جاءت،
في بيت والدها القديم.. بين أقاربها 
أو بمعنى أدق بين من تبقى منهم.. 
وكل هذا حتى لاتُثقل على أحد
فضّلت العيش وحيدة .. تُصاحب جدران البيت .. وتروي القصص للمرايا
لا إبن يملأ حياتها فرح
 ولا أخ يسندها إن أثقل العمر كاهلها .. ومع ذلك بقت شامخة
كل المحاولات لانتشالها من وحدتها باءت بالفشل .. 
هي لاتريد أن تُركن على الرف
أو أن تُعامل على أنها شيء زائد عن الحاجة
عزة نفسها نذرت أن تُبقيها هنا .. حيث بقايا أهلها
وذكرياتهم
وصوت خطواتهم 

واليوم أمي "نوضى" كما تحب أن نسميها بألفها المقصورة  
بلغت الثمانين
زرتها بعد غياب طويل بسبب الغربة والدراسة
شاب الشعر والنظر
إلا قلبها لايزال شابًا
مليئًا بالحب والفرح،
نادت اسمي من بعيد
بينما عيناها لمعت بدموع اللقاء
نهضت من دون عصاها
لتفتح ذراعيها فرحًا بمن ذكرها وزارها،

عاتبتني لدقائق على طول الغياب
وسرعان ما نست كل ذلك
وضمتني بلهفة حطمت كل المسافات 
كنت للتو عائدًا من أمريكا
وبدأت تحكي لي الحكايا
عن جيرانها وأقاربها
عن والدي وجدي،
رغم مضي سنين طويلة على رحيلهم 
ولاتزال تدعو لهم بالرحمة والمغفرة
وهذا من بر العشرة والحياة،

وبدت تقص لي القصص
كيف كانت الحياة في زمانها
كيف كانت البيوت مشرعة الأبواب حتى يُخال إليك أنها بُنيت من دونها
وكيف كانت القلوب تتسع للناس
وكرم النفس يسبق كرم المال رغم ضيق الرزق
وخبزها الذي لم يأتِ ذكره بالأولين ولا الآخرين
وتنقلت بين مراجيح الروايات القديمة كطفلة تلهو مستمتعة بوقتها ومن زارها

ثم كررت شكواها من الوحدة ثلاثًا
أحزنتني .. قالتها بصوت منكسر:
 "تمر علي الأيام والأسابيع متشابهة
لا أُكلم أحد"

ثم طلبت من الله أن يعوضها الجنة
وبحشرجة الرجاء
حلّفتني أن أبقى عندها ليومين
أسامرها وأرد الصوت عليها
وكان لها ما أرادت
فمن ذا الذي يقوى على كسر قلب لاينبض إلا بالحنان
ومع بزوغ الفجر وجدتها على سجادتها
ترفع يديها للسماء
ولا أعرف لماذا سمعتها ترجوه سبحانه:
 ربِّ ابنِ لي عندك بيتا في الجنة

ومع حكايا الصباح روت لي جور السنين
وكيف كانت تموت ألف مرة عندما يُعايرونها بالعاقر
بلغت الثمانين ولاتزال تبكي على سخريتهم من قضاء الله في أمرها وإن كيدهن لعظيم

وفي تنهيده مصحوبة بألم الحنين تقول:
وماذا تملك فتاة عاقر غير الصمت والصبر 
سمعت وتجاهلت وكل شيءٍ بقدر 

 وختمت حديثها بالقناعة والرضى:
"عشت الحياة بحلوها ومرها
فرحت وانكسرت، اشتقت وحنيت، ضحكت وبكيت
ولاشيء أنتظره سوى أن يعوضني الله بما هو خير من الدنيا وأبقى"

وعندما لٓملٓمت ذاتي موشكًا على الرحيل
وضعت في جيبي مبلغًا نراه قليل وهو كل ماتملك
رغم أني لست في حاجة
لكنها أصرّت على ذلك
قبّلت رأسها ومضيت .. 
لتمسح دموعها وتحلّفني أن لا أُطيل الغياب
ورحلت وأنا ادعوه سبحانه
أن يعوّض أمي "نوضى" ماحُرمت منه بالدنيا
إنه سميعٌ  كريم العطاء 

ياه على هذه الحياة
موحشة بوحدتها
ومرارة الفقد وألم الشوق لمن غاب ورحل
عندما ينتهي بك المطاف وحيدًا
تتأمل هذه الدنيا لتزهد بكل مافيها
وماذا عساي أن أقول سوى ربي لاتذرني فردًا وأنت خير الوارثين
 
فاصلة،
صِلوا أرحامكم وكبار السن .. 
عانقوهم بفرح واصغوا لهم بانتباه
أشعروهم أنهم كل شيء بحياتكم
فأنتم لاتعلمون متى تحين ساعة الرحيل

إضاءة:
"إن إلى ربك الرجعى"

آخر السطر:
أكبر خساير العمر يافهيد .. لاصرت بين الناس ومحدٍ يدانيك

دويع العجمي
@dhalajmy

السبت، 16 يوليو 2016

جاءنا البيان التالي






البداية:
"ومن الإنجازات العظيمة .. إيمانك بذاتك"

متن:
المكان بارد،
الكامرات مصفوفة بكل الزوايا كفصيل عسكري،
بصوت أجش يصرخ المخرج فعاد كلٌ لموقعه وتحصن خلف عدّته،
بدأ العد التنازلي .. وانطلقنا

هو الظهور الأول لي بلقاء تلفزيوني،
لم أكن مرتبكًا .. تجاوزت هذا الشعور
فمشاعري كقالب الثلج .. لاتهتز
وتفكيري مشغول بأشياء تافهة
كيف سيبدو شكلي .. وصوتي؟ 
وكيف ستراني أُمي ! 
وماذا سيقول أستاذي ؟
وياترى هل أنا رائع حقًا كما يقول أصدقائي؟
والمضحك أنهم قدَّموني كمحامي وكاتب
مع أن الطفل الذي بداخلي لم يكبر بعد
لايزال يلهو بألعابه ويعبث بكراسته وأقلامه

وبدأنا
-المذيع:
 دعوات كثيرة ورفض متكرر وها أنت بشكل غريب توافق وتطل بلقاء .. كيف نفسر ذلك؟
فسّره بسطره المختصر .. شاب حظي بشهرة لم يستوعبها بعد أو بشكلٍ أدق لايزال مقتنع أنه لايستحقها

-وهل تعتبر نفسك مشهورًا؟
بعيون من يكرهني .. نعم أنا الذي كلّ وتعب من هتافات المعجبين وتصفيق الجماهير فالغرور خير درعٍ في وجه سهامهم

أما بعيون من يحبني .. فأنا تجاوزت ذاتي بخطوتين .. وربما قفزت قليلًا عمّن كنته قبل سنوات،
تغير بسيط بدائرتي الإجتماعية .. لم تعد ضيقة،
هناك أناس كُثر يعرفوني .. يسلمون علي ويثنون
وأضعافهم بأضعاف لايأبهون لحضوري .. أنا لازلت أتلمس موطئ قدماي وأُلامس الأرض

-والحقيقة أين هي؟
الحقيقة هي أني أسخر من ذاتي كثيرًا
أحاول جاهدًا أن أكون شخصًا أُشبهني،
وللأسف غالبًا ..لا أنجح
ومن التجارب التي لا أحبها،
في أي مناسبة إجتماعية
أنقسم لعدة أشخاص
أحدنا منصت
وآخر وظيفته مجاملة الوجوه الباهتة 
وثالث ثرثار لا أحبه .. يُغطي خجله بكثرة الكلام حتى لاينتبه أحد
ورابع متأمل يفترس ملامح البشر ليقرأ كلٌ منهم ويرتبهم بسذاجة قربًا وبعدًا منه وكأنه نقطة الجاذبية التي يدور هذا الخلق العظيم حوله؟
أما أنا الحقيقي .. لا أعرفني بعد .. ربما أنا أفضل من بعيد وربما من يقترب مني يرى قبحًا تستره بعد المسافة

-لكن شخص مثلك نهتم لنعرف كيف هي حياته؟
أشياء كثيرة أفعلها وأسعد بها
بالحقيقة عندما أكون بمفردي لا أشعر بالوحدة
فمن يقرأ لايفتقد أحدًا
وأصحابي بعزلتي الإختيارية ثلاثة وأنا رابعهم
نتسامر جميعنا كل ليل
يحضرون وينصرفون بالوقت الذي أحب،
يسكنون رفوف مكتبتي،
نجيب محفوظ الذي أحب دراميّته والعقاد الذي تأسرني طريقته بالتفكير وصديق آخر ثقيل الحضور لأني غالبًا لا أفهمه،
لكن بالطبع مسرور بصحبتهم 
فنحن أصدقاء .. من طرف واحد
وعندما أمّل القراءة
أمارس الخط .. أُعبّئ السطور .. وأكتب

-وماذا علمتك هذه التجربة؟
علمتني أن عزلةً إختيارية بين أشياءك التي تحب خيرٌ من مجالسة وجوه مفروضة علينا بحكم القدر،
خسارة ياصديقي ..
لقد فقدت الكثير من مرونة تقبل وجودهم
لم أعد أقدم تنازلات من الوقت لأنال رضاهم
هذا لم يعد من الأشياء المهمة

-وهل هذا تصرف نبيل؟
بالطبع لا .. لكني لست مذنبًا
أنا فقط اخترت شكلًا لحياتي
اختزلتها بالأشياء الجميلة
حددت مقاسات الأشخاص ونحت زواياهم حتى لاتبدو حادة،
خاصرتي بمأمن اليوم حتى مع من أُحب
أنا قررت أن أعيش بالطريقة التي تناسبني
وهذا كل شيء

-ماهي أعظم إنجازاتك؟
أسرع من يضبط إيقاع ساعته البيولوجية ليُعيد ترتيب مواعيده والنهوض صباحًا
حائز على جائزة نوبل بسرعة الملل حتى مع الأشياء التي تمنيتها وتعبت من أجلها
أكثر شخص يحب الطعام ويكتفي بتصويره ويأكل بالنظر

-وماهي أكبر إخفاقاتك؟
عجزت أن أكون مثاليًا بعاطفتي.. هذّبت نفسي لكني فشلت بتطويعها لتنسى الإساءة
لم أستطع تجاوز ذاتي بمغفرة زلّات الآخرين
ولأن العفو ارتبط بالمقدرة .. فمقدرتي أقل من أن تفعل ذلك
فالقلوب إن جُرحت .. جفّ عطاؤها واكتفت

-وماذا علمتك الغربة؟
علّمتني أن التحديق بالأشياء يجعلها مملة
حتى الوجوه التي نعرفها
إن أطلنا بها التدقيق .. كرهناها
ولو عشنا بثقافة الترقب
لتجردنا من كل حبيب وقريب

وعلمتني الغربة التغاضي
 وأن لاشيء يستحق أن تخسر من تحب بسببه
ولأن في حياة كل منا حماقات لابد منها
أعترف أن هناك من أقصيتهم من حياتي بلحظة غباء،
وبعد أن نضجت
وانخفض سقف كبريائي
تمنيت لو عادوا
لكن مايجعل خطوة المبادرة ناقصة
هو أني وجدتهم عاشوا الحياة من دوني بشكلٍ أفضل

وتلك المياه عندما جفت مجاريها .. ساءت أرضها وقست

-وماذا تغير فيك؟
لم أعد أمشي بالأرض مرحا وصوتي ليس نكرة
واستعنت بممحاة المراهقة لأمسح أخطاء الماضي
حتى يكون هناك متسع لأرتكاب أخطاءً جديدة
وقبل أن يسعى أحدهم لإنتقادي
عليه أن يُحبني بما أنا عليه
بملاكي الطاهر وشيطاني الرجيم
فلن أكون نسخةً مكررةً من أحد،
 ومن نعم الله أني أدركت باكرًا كيف أعيش الحياة بالشكل الذي أُحب وإعجاب الآخرين من عدمه ليس من أولوياتي،
أقبلني هكذا بحسناتي وأخطائي،
لكن ماذا عنك؟

-أنا هنا لأسأل فقط .. بماذا تُحب أن تختم؟
كنت أتمنى ياصديقي أن أتحدث كما أكتب
لكني خذلت نفسي مجددًا
معك أيقنت أني خُلقت لأكتب .. لا لأتكلم
حتى الحوار أعلاه تخيلته ولم يكن
بدوت معك كأحد وأي أحد
لم أكن أنا الذي أحب
مازلت مبعثر بين من أكتب ومن أتحدث
الأثنان لايتشابهان
لهذا عذرًا لمن خيّبت ظنهم حينما لم أكتمل
فالصمت سترني بينما عرّاني الكلام.. 

إضاءة:
"كن مختلف .. لاتُشبه تكرارهم"

آخر السطر:
ومن عاش يافهيد لجل يرضي الناس .. راحت حياته خسارة

دويع العجمي
@dhalajmy

السبت، 2 يوليو 2016

حنّا كويسين .. ولسنا بهذا السوء






البداية:
"وفي بعض السكوت ترتفع الوقاحة لحد الإنفجار"

متن:
نحن رائعون جدًا .. إلى حد الإكتفاء
لانسكن القصور ولانملك سيارات فارهة،
والدي رحمه الله كان موظفًا بسيطًا
وجارنا لايملك شركة 
حتى زملائي بالمدرسة كانوا يشبهوننا،
مصروفنا قليل
وآخر الشهر قد ينعدم

نملك بيت صغير .. به مجلس معزول عن الصالة
الرجال في جانب
والنساء في جانب آخر
عندنا غيرة ومحارمنا لايُجالسون أصحابنا ولايتحدثون معهم 
فلكلٍ منهم شأنٌ يُغنيه

وكل ماتعرضه الدراما الخليجية لايعكس واقعنا،
فهم يسكنون القصور،
خمسة أدوار بصالات أفراح وأثاث أسطوري ودرج يشبه درج سندريلا،
تتناثر التحف بكل الزوايا 
وقطع الحرير مبعثرة بشكل هندسي على الرخام، 
زاده السجاد التركي الفاخر أناقةً وروعة

لا .. نحن لسنا بهذا الثراء
أغلبنا سكنه صغير بمساحته
عظيم بمن فيه
وظائفنا جيدة .. تُرهقنا الأقساط وتُثقلنا القروض
ومع ذلك .. لم ننكسر
لانضع قرط ولا وشم
ولا نستخدم "ربطات" شعر ولانهتم بآخر تقليعاته،
لباسنا مستور
وسعره مناسب،
بناتنا محترمات .. زادهم الحياء وقارًا وحشمة،
نحن لهذا الحد .. رائعون.

مشهد:
الأب يسأل إبنه عن سبب مكوثه الطويل بغرفته
فيُجيبه الإبن المستلقي على سريره:
"متضايق يُبهْ"
ليأتي صوت الأب خافتًا:
"ليش ياولدي ماتروح لندن جم يوم توسع صدرك شوي"
وينتهي المشهد الذي من المفترض أن يُسمى "درامي" دون فائدة أو مضمون !

مع أننا إذا تضايقنا لانسافر إلى لندن .. 
نحن فقط نُجالس أصحابنا الذين نحبهم
أو نمارس الرياضة بالنوادي المغلقة هربًا من لواهيب الصيف الحارقة
وكأكثر كُلفة .. نذهب للمقهى المفضل بعيدًا عن رتابة اللحظات والأماكن فهذا أقصى طاقاتنا

مشهد آخر:
صديق الإبن يزوره ويجلس بصالة البيت ! 
يُسلم على أختهم ويتحدث مع قريبتهم
يبدي إعجابه بها والوضع عادي !

 .. ماذا يحدث؟
نحن لسنا بهذا السوء
فهذا لايفعله إلا "..." ومابين الأقواس تعرفونه
يعف حتى القلم عن ذكره

ولا أعلم أي بيئةٍ هذا انعكاسها،
صحيح أن أصدقائي قلّة
لكن دائرة معارفي متسعة بكم هائل من البشر،
وضعتهم ظروف الحياة في طريقي،
تختلف طبقاتهم وأصولهم
حتى الأثرياء منهم
لايدور هذا السيناريو في منازلهم
ولم أرَ أي تطابق بين خلاعة المسلسلات والواقع الذي نعيشه،
فمجتمعنا يشبهنا
نتكلم بلهجتين
فبعضنا من البادية وبعضنا حاضرة
وكل منا يُكمّل الآخر
وإن اختلفت مذاهبنا .. فجميعنا خرّ ساجدًا خاشعًا لله ونحترم بعضنا،

مجتمعنا لايزال بخير
مصاب ببعض الأمراض لكنه لم يمت
ولم تمت فيه الرحمة والعاطفة والدين
نحن لازلنا نُكرم الضيف،
نُقبل رأس الكبير ونعطف على الجار
فأصالتنا باقية
ومعدننا طيب
وماتشاهدونه يا أعزاؤنا العرب على شاشات التلفاز لايمثلنا بثرائه الفاحش ورذيلته المقيتة،
"حنّا كويسين" .. ولسنا بهذا السوء

إضاءة:
"المرء ابن بيئته"

آخر السطر:
شفت يافهيد .. ناس لاتضايقت راحت لندن .. وناس لاكشخت راحت الطايف

دويع العجمي
@dhalajmy