الأحد، 20 مارس 2016

موعد الثامنة صباحًا

موعد الثامنة صباحًا

البداية:
"إن إلى ربك الرجعى"

متن:
عادت .. لكنها هذه المرة ..أطالت الغياب
عادت أكثر وقارًا وهدوء
عادت آلام العين التي تعرفني وأعرفها منذ أُصبت بهذا المرض وأنا ابن التاسعة
تشخيصها صعب وعلاجها نادر وشفاؤها مؤقت، 
آلامها لاتُحتمل لطفل لايزال يتلّمس الأشياء ليعرفها
سايرتها حتى اعتدتها .. ماعادت مؤلمة
تجاوزتها وأصبحت أعلم متى تأتي 
حتى أني في أحيان كثيرة أستعد لصداعها .. ولا أكترث

كان عمّي يوبخني عند جلسات العلاج ووجعها
كان يقول أن الرجال لايبكون
وكنت أخجل من ذلك
 وخز الإبر في جفن العين أرهق ذاك الطفل ففضل البكاء بصمت حتى لايضحك عليه أحد
وكان ذلك .. 

موعد الثامنة صباحًا
أهم بالخروج من العيادة
بعد خضوعي للعلاج الذي من المُفترض أنه مؤلم 
ولكن تكرار الشيء يُحتّم اعتياده
وعند الباب لمحته ..
طفل بالعاشرة من عمره
فهمت أنه يستعد للدخول لذات العيادة
ليخضع لذات العلاج
ويتحمل ذات الألم

هذا كثير .. لكنه قضاء الله وقدره وعلينا الإقرار به،
مددت يدي له وصافحته
استلطفني وابتسم
أخبرته ألا يبكي .. فالأبطال وحدهم من يتحملون،
وقصصت له بعض الحكايا .. 
عن شجاعتي عندما كنت في عمره
عن حرماني من أشياء كثيرة كنت أحبها
السباحة مثلًا
ولعب كرة القدم أيضًا
بالإضافة لمشاهدة برنامجي المفضل
فعيني المرهقة تحتاج للراحة .. لاينبغي أن أُجهدها
وكانت جدتي تراقب كل ذلك .. وتتحكم به
لكني عوضتها بالرسم
والخط .. والكتابة .. وهوايات أُخرى قد تكون مُملة لطفل بذاك العمر لكن هذا الموجود وحاولت جاهدًا الاستمتاع به.

أخبرته أن القدر قادني لأصبح كاتبًا ..
أوزن الكلمات وأعزف إيقاعها .. وغالبًا أنجح في ذلك
وجلست معه وكأننا صديقين التقيا بعدما فرقتهم الظروف وجمعتهم صدفة الحدث ..

وباستعجال قاطعتني الممرضة ..
 حان موعد العلاج..

كلانا مضى
أحدنا للعيادة والآخر لخارجها .. وانتهى المشهد

خسارة ..
نظرته الحائرة كانت تتجاوز كلماتي وكأنها تعلم أن الواقع ليس كما ذكرت ..
تألمت لأني لم أقل له الحقيقة كاملة
لا أريد له أن يعيش بأوهام عشتها
لا أحب أن يرسم لوحاته بالفراغ فلاتترك أثرًا ولا بهجة
وبذات الوقت .. لم أكن لأجهض أمنياته وتطلعاته للمستقبل
يكفيه ماسيُلاقيه بعد دقائق .. ولكن!

حسنًا..
ستكبر وتعرف .. 
أن حتى خياراتك الوظيفية ليست كاملة..
عليك ألا تُحب أن تكون ضابطًا .. فنظرك أقصر من بلوغ ذلك
وعليك إقصاء فكرة أن تكون طيارًا .. فعينك أضعف من التحليق لذلك
وعليك نسيان الرياضات الجماعية حتى لايُصيبك أحد..
ولاتحزن .. 
فلايحرمك الله شيئًا إلا عوضك بما هو خير
ليكن هذا يقينك
ومع الوقت ياصديقي
ستمضي بالحياة وتعرف
أن وضوح الرؤية يجعلك ترى قُبح الأشياء التي لاينبغي لك أن تكرهها
وستتواضع أحلامك ويهبط سقفها 
وتُدرك أن القدر إن عاندك لايجدي معه البكاء 
ستفرح مرة وتحزن مرات
فصداع جدار العين سيُقصي خيارات كثيرة في قائمة التفضيل لتضعها بسطر التهميش
ومع الوقت ستنساها

لكن أرجوك .. لاتنسَ أن تعيش
لاتنسى أن تسعد بكل الأشياء من حولك
هناك متسع لنبدع بمجال آخر حتى وإن لم نكن نحبه،
أحببت أن أكون طبيبًا فأصبحت محاميًا
وأردت أن أكون رسامًا فصرت كاتبًا
وسايرت القدر ومضيت .. وأحببت ما أنا فيه
ليس خنوع واستسلام
لكنها قسمتنا بالحياة
وعلينا اليقين أنه خير

وفي ختام الوداع:
أرجوك .. تذكر أن الأبطال وحدهم لايبكون.

إضاءة:
"وفي طريق أحلامك .. لاتنسى أن تعيش الواقع"

آخر السطر:
بتعيش يافهيد وبتدري إن ماكل مسعى له دروب.

دويع العجمي
@dhalajmy

الأحد، 13 مارس 2016

بيتنا القديم



البداية:
"ولايزيدك الماضي إلا أصالةً وجمال"

متن:
عدنا ..
بعد غربة طالت سنوات ..
صافحت خلالها وجوهًا كثيرة .. 
ثقافات مختلفة .. وجغرافيا جديدة .. وتضاريس معقدة ..
عدنا للبيت القديم
في حيّنا المتواضع
البسيط بأبنيته الشعبية وأزّقته ودكاكينه

عدت لأسترجع بعضي الذي فقدته..
وبعضي الآخر الذي لم أعد أعرفه ..
في غرفتي الصغيرة ..
التي تركت في كل زاوية من زواياها حلم وأمنية ..
شابت أمانينا وماشاب الأمل ..

والمسألة بسيطة .. 
بمجرد الوصول للرف العلوي من دون الحاجة لكرسي للوقوف عليه
أو عصا لاستدراج الأشياء وإسقاطها بحذر
اكتشفت كم كبرت وتغيرت ..

من بيتنا القديم ..
خرج ضابط وطبيب ومحامي ..
تغيرت الحياة  وغيّرنا الظروف ..
بنينا قصرنا الحديث ..
ومع ذلك .. تُصر جدتي على البقاء في الماضي
بين جدران البيت وذكرياته التي لاتنتهي ..
ونحن نسايرها بخجل ..
حتى لايسقط كبرياؤنا فالشرقي لايبكي ولايكشف حنينه وشوقه لأشياء رحلت ولن تعود ..
خطوات جدي وعصاه ..
ضحكات والدي وطرائفه ..
كل شيء انتهى .. والراحلون بقت لنا ذكرياتهم
معلقة على سقف بيتنا القديم

الحي ساكن وهادئ .. الغالبية هجره وانتقلوا للمدن الجديدة
وجدتي لاتزال تصر على البقاء
لم تغرِها الحداثة وأضوائها
فهي صُنعت لزمن غير زمنها
وفي صوت مغلف بحزن الغياب قالت:
"الدنيا ماتغيرت، الناس هم اللي تغيروا"

عاجزة حتى الآن عن فهم كيمياء البشر وضعف تفاعل مشاعرهم؟
لماذا الجمود بين الجيران؟
لماذا البرود بين الأقارب؟
لماذا العلاقات أخذت شكل باهت ومصطنع؟
وفي فورة مشاعر تقول الحمدلله إني عشت شبابي بذاك الزمن رغم قسوة ظروفه لكن القلوب شواهد والحب متدفق بين الناس .. مالذي تغير؟

عدت من الغربة لأجد "شوكة وسكين" على طاولة الغداء !
أعتقدت جدتي أننا تغيرنا وتغيرت ثقافتنا
حاولت جاهدة أن تحتوي هذا الجديد الذي عاد بعد سنين طوال ؟

قبّلت رأسها .. 
أخبرتها أننا فخورون بها
وأن حياتنا البسيطة ليست عار ولم يكن لنخجل منها..
لسنا بحاجة لطاولة طعام فنحن معك اعتدنا الأكل على الأرض 
والأكل باليد ألّذ وأطعم ..
 وبوجودك يسر القلب ويسعد ..
ابتسمت ومسحت دمعتها الخجولة ..
ولهذا عدنا ..
عدنا جسدًا وروح ..
عدنا بأصالة الماضي وجمال الحاضر ..
  
عدت لأفتخر بالبيت القديم وحياتنا البسيطة
عدت لأقول أن النهايات العظيمة تسبقها بدايات متواضعة
والظروف ليست شمّاعة لنعلق عليها إخفاقاتنا وكسلنا وعدم المثابرة لحياة أفضل
عدت لأقبل يد جدتي وأخبرها أننا لم نتغير
والشهادة ليست مبررًا لأن نتنكر لهذا البيت العظيم
أو نخجل منه
نحن فخورون .. بحيّنا .. وجيراننا .. وبكِ أنتِ 
وليتها تكفي 

فالكل رحل ..
لم يبقَ لها شيء ..
جدي ووالدي وجاراتها .. 
لا أريد للغياب أن يكسرها أكثر
لا أريد للوحدة أن تنال منها
وتنهش جسدها الذي نحل..

تبذل مجهود كبير لتُشعرنا أنها بخير
لكن صوتها وضعف نظرها يقول عكس ذلك
تقف متكئة على عصاها
تتأمل المشهد من بعيد
تحدق بالبيوت .. والحي .. الشوارع
وكأني بها تصرخ:
أين هم ؟
لماذا رحلوا ؟
أين من كانوا يملؤون فضاءات الحي بالبهجة والفرح
أين جاراتي وصديقاتي؟
أين إخواني وأحبابي؟
مؤمنة بالقضاء والقدر .. وتعاقب الأيام والزمن
لكن هذا كثير ..
قلبي أضعف من أن يتحمل مسافات الرحيل
فيارب عفوك ورضاك

مؤلم مشهد الحنين
لأيام مضت ولن تعود
لزمن انقضى لايعوضه شيء
حين تمضي الحياة بخريف العمر
بعد أن استنفدت كل تجاربها وعشتها
بحلوها ومرها
وينتهي بك المطاف لنقطة البداية
تبحث عن دفء يحتويك
وتصبح  أعظم احتياجاتك وجود الأحباب من حولك .. وليتك تجدهم.

إضاءة:
"في عمرٍ ما؛ ستفهم أن لاشيء في حياتك يستحق أن تخجل منه"

آخر السطر:
ومن أول تقول العرب يافهيد .. خِبْل اللي يتنكر لبيته ومرباه

دويع العجمي
@dhalajmy