الأحد، 21 ديسمبر 2014

وشاب الشعر يافهيد

البداية:
"الثقة ميزان البشر.. نقصانها كزيادتها مهلكٌ للذات"

متن:
كنت في الخامسة عشرة من عمري عندما احتفلنا به عائدًا من فرنسا بشهادة الدكتوراه، أحد الأقارب الذي كان يشبهنا بتفاصيلنا البسيطة، وحياتنا المبنية على العادات والتقاليد، وصبغة البداوة التي نعتز بها، جمعة "الشيبان" ودروسهم التي لا تنقطع.. يعتلي سقفها الحفاظ على الصلاة والكرم واحترام الآخرين، صحيح أنهم لم يتعلموا في المدارس والجامعات، لكن الحياة علمتهم ما هو أهم بكثير من مناهج الدراسة.
هو عاش بهذه البيئة البسيطة وعايشها بشتائها ولواهيبها، وربيع أيامها التي تحلو لياليها مع "دلالٍ على جال الضو"، تزينها النقاشات والشعر وقليل من "صعلكة المراهقة".. إلى حين!

تغيرت فيه الهقاوي.. عسى العوض بالليالي المقابيل

الذي عاد من باريس تغير كثيرًا!
نظرة الاستصغار لنا والفوقية بالتعامل معنا باتت سمة واضحة.. اختصار الكلام مع الجميع والاستهزاء بمواضيعهم.. ملبسه وشكله تغير ولم يعد يشبه ذاك الطيب الذي كان يحبه ويحترمه الجميع.. مُحبَط من هيئة والده وعصاه، ويرى الرجعية متمثلة بـ "برقع" والدته، وكلاهما يكتم جرحه ويدعو له بالخير والتوفيق.. حتى نحن بات يخجل من منظرنا في مناسباته لكي لا يرانا أصدقاؤه الأرستقراطيون الذين درسوا معه في باريس، فنحن باختصار.."بدو" ولا نُشرّفه!
مجتمعنا البسيط طيب، كانوا يلتمسون له العذر ويقولون: "يحق له متعلم ومثقف".
وكل هذا حشمة لماضي أيّامه الكريمة التي يحفظونها له والتي داسها بغروره.. رغم صغر سنّي حينها فإني رفضت أسلوب حياته ونظرته لغيره، ولكن لا يحق لنا الكلام والتعبير، فالصغار ينصتون فقط عندما يتحدث الكبار.. وليت قومي يعلمون.

رفيقٍ يسر العـين ويكمّل الماجـوب
صفات المراجل كلها فيه ملتمّة

على مقربة منه وليس ببعيد؛ يقف ذاك المجتهد الأقل منه ذكاءً ربما وحظا ومن ذات البيئة البسيطة، رغم دراسته الطويلة في بريطانيا يعود ليذهب بوالده المسن عند "الحلال"، فوالده عاش حياته لا يملك إلا "إبله وأغنامه".. تُضيع عليه وقته ويتاجر فيها ويأنس عندها.. يمازح والدته بمحبوبته البريطانية التي سيتزوجها؛ لترميه بأقرب ما تلمسه يداها.. هو مختلف عن الأول على الأقل بقي كما هو.

دمعة فخر سالت على خد شايب
عودٍ بكى من فرحة العين مسرور

الفصل الأخير.. التحضيرات على قدم وساق لحفل التخرج.. أقسم أنه لن يتسلم شهادته إن لم يحضر والده لبلد الضباب، وأمام إصراره وافق ذاك "الأُمّي" المسن الذي لا يقرأ ولا يكتب، فحياة الأولين ليست مفروشة بالديباج والحرير كحياتنا، وظروفهم قاحلة وصعبة.. وقف الابن على المنبر شامخًا ليُهدي تخرجه لوالده الذي روَت دموع الفرح تجاعيد العمر وقلّما ذرفها، ولكن للدموع الصادقة ميقات ومواعيد.. كبرنا وتثقفنا ففهمنا أن العلم والشهادة لا تزيد المرء إلا تواضعًا ووقارًا، والإنسان الذي لا تنعكس شهادته وعلمه على أخلاقه وسلوكه جاهل لا قيمة له، ولا لقطعة الورق المختومة التي يتبجح بها، فالناس بأخلاقهم يُقاسون، ومن لا يحترم جذوره وأصله لا يستحق التقدير، فثلث الحكمة مداراة الناس وليس التقليل من شأنهم والتعالي عليهم.. نال الأخير محبة الجميع واحترامهم، وزاده الله توفيقًا وقبولا في المجتمع، أما الأول فلازال يعيش صراع البحث عن الذات، فلا هو الذي صافح الواقع وافتخر بجذوره وانتمائه، ولا هو الذي نجح بإقناع ذوي الطبقة المخملية بأنه يستحق أن يكون "منهم"، وهو الذي مع أول اختلاف يحرقونه بفئويتهم، وهذا ليس بكثير.. فمن لا يحترم أصله ومرباه، ويتبرأ منه لا يحترمه الناس، ففاقد الشيء لا يعطيه.

فاصلة،
كل منّا يمر بنشوة فخر واعتزاز قد تفصله عن الواقع، فيرى نفسه بصورة ويتوهم أن الآخرين ينظرون له بهذه العَظَمَة، والحقيقة المؤلمة أن الناس يرونك من زاويتهم التي لا تبصرها، فلا أنت العظيم المهم ولا الرائع المبهر، قد تكون شخصا عاديا رغم وضعك قياسات أكبر بكثير من حجمك.. يقول كريم الشاذلي إن أسعد الناس من انطلق من حجمه الحقيقي، وعرف موطئ قدمه، أنت وحدك من يُجيد تقدير ذاتك ومعرفة أسرارها وأبعادها.. أما أجمل الناس فهم أولئك الذين مهما أكرمتهم الحياة من الحظ والنجاح يبقون كما هم ولا يتغيرون، ويحفظون الامتنان للأشخاص الرائعين حولهم ولا يتكبرون عليهم.. وفي قصة الشابين تدور الفوارق.
لهذا.. ما عادت الشهادات تبهرني، ولا الألقاب قبل الأسماء تهمني.. عند النقاش والحوار سأعرف شهادتك الحقيقية، وما الناس إلا ملافظ ومضمون.

إضاءة:
علمتني الحياة أن النجاح الحقيقي يبدأ من مصافحتك للواقع، والقناعة بالموجود، والرضا بالمقسوم.

آخر السطر:
"تنكرت للشاص والبل عقب ما قمت تخثرد بالفرنسي!.. شاب الشعر يا فهيد".
التعليقات

هناك تعليقان (2):

  1. أو بالاحرى كتاباتك و مغتطفاتك وليست مقالات ..

    ردحذف
  2. هل قمت بتدوين كُتب؟ وهل تُعرض في المعارض ؟

    ردحذف